يقترن اسم دمشق بالقدم، فقد عرفت هذه المدينة العريقة على أنها أقدم مدينة في التاريخ ما زالت مسكونة وعامرة بالبشر... وعلى الرغم من أن العرب في كتبهم ورواياتهم الكثيرة الواردة في مدونات اليعقوبي والمقدسي وابن جبير والبلاذري وابن بطوطة، وغيرهم يقرنون اسم دمشق ببداية الخليقة، ويرجعون تاريخها إلى عهد آدم الذي كان يقيم في ضاحية من ضواحيها تسمى (بيت أبيات) ويقولون أن حواء قد أقامت في قرية أخرى ما زالت قائمة (بيت لهيا) أو بيت الآلهة، وأن هابيل أقام في (مقرى)، وأن قابيل في (قينيّة)... وأن أكثر المتحدثين عن دمشق يجمعون على أنها كانت موطن إبراهيم الخليل، بل كانت مكان مولده، وكان والده يقوم بنحت الأصنام فيها...
ويقال أنها ترجع إلى من أحفاد نوح (عليه السلام)، وأن من بناها هو من أحفاد نوح، وقيل أيضاً أن نزل فيها وأسس حائط معبدها، وهو أول حائط مبني في التاريخ... وقيل الكثير عن دمشق وتاريخ دمشق، وعلى الرغم من أهمية هذه الأقوال ودلالاتها الكثيرة عن دور دمشق وعظمتها وريادتها التاريخية منذ أقدم العصور وحتى اليوم، فإنها تبقى في حدود المرويات والأساطير التي لا تعتمد في تقديم المادة العلمية الأساسية للمؤرخ.
ترى ماذا تخبرنا نتائج المكتشفات والدراسات الأثرية التي جرت في مناطق عديدة من دمشق في السنوات الأخيرة... دعونا نتلمس ذلك...
ثورة الحضارة
تعتبر الفترة الواقعة بين الألف الثامن قبل الميلاد، والألف السادس قبل الميلاد، من الفترات الهامة جداً في بلاد الشام بشكل عام، ودمشق بشكل خاص، ففي هذه البقعة الغنية جداً من العالم، نضجت قبل أي مكان آخر، جملة متكاملة من التحولات الهامة، يمكن أن نحدد عواملها في نقاط عديدة أهمها:
1 ـ الخروج من الكهف، وتأسيس القرى المبنية في العراء.
2 ـ درجة استقرار الناس داخل تلك القرى.
3 ـ القرية بحد ذاتها كإنجاز معماري، وتطور خططها ومدلولاتها.
4 ـ إنتاج القوت.
5 ـ التطور التكنولوجي والتقنيات الجديدة.
6 ـ التطور الإيديولوجي كما يتجلى في الفن أو في مراسم الدفن.
في مطلع الألف الثامن قبل الميلاد في بلاد الشام اكتملت التحولات التي ابتدأت مع العصر النطوفي، وابتكرت المجتمعات التي استقرت في قرى الصيادين الأولى، نمطاً اقتصادياً إنتاجياً جديداً يوفر لها مصادر عيشها بشكل أفضل، إذ انتقلت من الاقتصاد الاستهلاكي الذي يقوم على التقاط الحبوب وصيد الحيوانات البرية، إلى إنتاج هذه الخيرات من خلال الزراعة والتدجين...
لقد شكل الانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجي المنظّم انعطافاً كبيراً ووضع الأرضية التي نشأت عليها الحضارات التاريخية اللاحقة، وكان هذا الانعطاف عظيم الأثر لدرجة أن بعضهم أسماه بالثورة النيوليتية، أو ثورة إنسان العصر الحجري الحديث، وبغض النظر عن أسباب ودوافع وظروف نشوء الزراعة والتدجين، سواء كان مردّها ثقافياً-اجتماعياً، أو بيئوياً-جغرافياً أو ديمغرافياً-سكانياً... أو كل هذه العوامل مجتمعة، فيجب أن نتذكر أن ابتكار الزراعة هو الخطوة الحضارية العملاقة التي حققها الإنسان، ولولاها لما كان لحضارتنا الحديثة أن نقوم، ولا أن تصل إلى هذه الدرجة من الغنى المتنوع، ومع بداية الزراعة تسارعت وتائر التطور بشكل مذهل، وحصلت تحولات دراماتيكية أسست لظهور الدول والحضارات التاريخية بكل غناها وتعقيداتها. وحتى نفهم دور دمشق في هذه التحولات وعمليات الاستقرار والاستيطان البشري نشير إلى دور العوامل الجغرافية والبيئوية، فمنطقة دمشق، كما هو معروف، كانت عبر عصورها المختلفة، وفيرة المياه، خصبة التربة، تساعد على الاستقرار والاستيطان، لهذا استقر فيها الإنسان مبكراً، كما دلت على ذلك الحفريات الأثرية التي تمت في مواقع عديدة مثل: تل أسود، وتل الرماد، وتل الخزامى، وتل الغريفة...
تل أسود
يقع تل أسود فيغوطة دمشق، في منطقة تكثر فيها المستنقعات الواقعة بين بحيرتين، وتبلغ أبعاد هذا التل (270×225) متراً، وارتفاعه عن سطح الأرض نحو خمسة أمتار، وقد جرت فيه عدة تنقيبات أثرية وبناء عل تحليل الكربون المشع (Cl4) ثبت أن عمر الاستقرار البشري في هذا الموقع يعود إلى الفترة الواقعة بين (7790 و6690) قبل الميلاد، أي ما يعرف بالعصر الحجري الحديث الأول، الذي لم يشهد صناعة الفخار، وبناء على مقارنة أنماط البناء والأدوات الحجرية والصوانية المكتشفة في الموقع مع غيرها من المواقع الأخرى، ثبت أن الآثار المكتشفة في تل أسود مؤلفة من مجموعة كثيفة من «البيوت» المستديرة الممتلئة بالرماد والمواد النباتية المحروقة، وتتقاطع تلك البيوت بعضها مع بعض في أكثر الحالات، كما أن الأحدث عهداً يشتبك مع الأقدم عهداً، ويتخلل تلك البيوت «حفر» أسطوانية مستقيمة الجوانب (لعلها صوامع) وقد عثر المنقبون الأثريون بين الأنقاض على أعداد كبيرة من اللبن المصنوع من الطين الممزوج بالتبن، واللبنة مسطحة من الأسفل، محدبة من الأعلى، وتظهر على وجهها العلوي طبقة أصابع آدمية، وكانت قطع اللبن تلك حطاماً محترقة بين الأنقاض، أو مرصوفة جنباً إلى جنب، وتفرش الأرضية مكونة «مصطبة».
وبناء على ذلك كان «تل أسود» قرية مؤلفة من أكواخ صغيرة الحجم ومستديرة الشكل، تتلاصق بكثافة بعضها مع بعض، مملوءة بالتراب حتى منتصفها، وقد استخدم الطين في صنع اللبن الذي كانت تفرش فيه أرضية المسكن، أو لبناء مصطبات منخفضة، أما البنيان العلوي للكوخ، فلابد أن معظم عناصره مؤلفة من مواد نباتية خفيفة وسريعة الاشتعال حيث تشير دلائل الحريق أن الأكواخ قد تعرضت مراراً للحريق، مع الإشارة إلى طبيعة البيئة المحيطة بالموقع التي أوجبت اللجوء إلى استخدام المواد الخفيفة وهي النباتات الناشئة من وجود المستنقعات كما كانت بحيرتا العتيبة والهيجانة غنيتين بالأسماك التي قام السكان باصطيادها ليتغذوا بها.
وتجدر الإشارة إلى كثرة الدمى الطينية (البشرية والحيوانية) في تل أسود، ومعظم الدمى البشرية كانت تمثل النساء على نحو يبرز منهن الأرداف والصدر، وتشكل هذه المكتشفات بدايات للتصور الفني لدى الإنسان.
أما عن المعتقدات التي وجدت دلالاتها في تل أسود، فقد كان الإنسان حين وفاته يدفن في حفرة عادية بوضعية الجنين، وحده أو مع طفل، وفي إحدى الحفر ظهر فيها جمجمة منفصلة + هيكل عظمي لطفل، وتحتها هيكل عظمي تام، مع أربع جماجم منفصلة، منها اثنين لطفلين، ومعهم خرزة من الصدف وأربع نصلات مناجل، ورأسي سهم من الصوان، وتأسيساً على ذلك يفترض أن القبر كان قد استخدم عدة مرات، وقد يعود لأسرة واحدة.
وفي الفترة التي تؤرخ بين (7000-6500) قبل الميلاد عثرت البعثات الأثرية في تل أسود على دلائل مادية تؤكد على تطور الاستقرار البشري واتساعه وقد أضيف إلى زراعة القمح النشوي زراعة أنواع جديدة من الحبوب كالقمح الوحيد الحبة والقمح الصلب والشعير، وكثرت صناعات العصر الحجري الحديث (القبل فخاري-ب) الصوانية وتنوعت أدواتها كما تم تصنيع الأدوات الصغيرة المصنوعة من الحجارة المصقولة كالجير والعقيق والحجر الأخضر وغيرها، كما عثر على كميات كبيرة من الدمى المصنوعة من الطين المشوي، من بينها مجموعات جديدة من التماثيل البشرية المسطحة والمستطيلة الشكل.
تل الغريفة
يقع تل الغريفة بالقرب من تل أسود وبحيرة العتيبة، وقد عثر فيه على أبنية مشابهة لتل أسود في الطبقة السفلى من الموقع، والتي تعود إلى الفترة الواقعة بين (6900 و6300) قبل الميلاد تظهر لنا نمطاً حياتياً مماثلاً لتل أسود (الطبقة الثانية) وعثر على تمثال صغير أسطواني الشكل قاعدته محزّزة يمثل إحدى المعبودات البيتية.
أما الطبقة العليا الممتدة (6300 و6000) قبل الميلاد، فنمط العيش فيها يشبه إلى حد ما الطبقة (1) من تل الرماد المعاصر.. وهناك ما يثبت أن دور الزراعة في هذه المنطقة قد تدنى لصالح الصيد بسبب الجفاف الذي طرأ على هذه الفترة الزمنية، وقد توقفت الحياة في هذا الموقع منذ ذلك الحين إلى أن جرى تحويله إلى مقبرة في فترة الاحتلال الروماني-البيزنطي لسورية.
تل الخزامى
يقع هذا التل الأثري في المكان الذي أنشئ فيه مطار دمشق الدولي الجديد، ويعود تاريخ الآثار التي اكتشفت فيه إلى النصف الثاني من الألف الخامس قبل الميلاد، وكان يضم في بقاياه بعض المساكن المتعددة الغرف، المستطيلة الشكل، المبنية من مادة اللبن المقولب، وقد عثر فيه على كميات من الخزف الفاتح اللون المغلّف بطلاء أحمر، المزيّن بزخارف محزّزة، ويشبه من حيث النوعية الكثير من الخزف المكتشف في مناطق عديدة من فلسطين وجبيل.
أما الأدوات الصوانية فقد كانت نادرة، وهي عبارة عن نصلات مقفاة مستطيلة الشكل كانت بمثابة المناجل، وهناك التماثيل الطينية المشوية (حيوانية وإنسانية) على شكل بيادق صغيرة.
تل الرماد
يقع تل الرماد على بعد 20كم جنوب شرقي دمشق قرب بلدة قطنا على ضفة وادٍ، يجري بين (قطنا وعرطوز) وقد جرى اكتشاف هذا الموقع في الثلاثينيات وكان يعرف ب وفي سنة 1960 أعيد اكتشافه على يد «فان لير» الذي أطلق عليه اسم «تل الرماد» نسبة إلى تكوينه ومن سنة 1963 إلى سنة 1973 قامت بعثة فرنسية-سورية بإجراء عدة مواسم تنقيبية فيه أسفرت عن وجود ثلاث طبقات أثرية فيه وهي على التوالي من الأقدم فالأحدث:
ـ الطبقة الأولى (6250-6000) قبل الميلاد، وهي أقدم الطبقات وقد أسفرت الأعمال الأثرية عن معلومات تفيد بأن سكان هذه المستوطنة الزراعية كانوا يعتمدون في حياتهم على زراعة القمح النشوي، والشعير والعدس والكتان الذي كان يستخرج منه الزيت، كما كان الناس يقتاتون من ثمار الأشجار البرية كاللوز والزعرور والفستق والتين، ويقومون بالإضافة إل ذلك بصيد الغزلان والأيائل...
لقد كانت مساكن الناس في تلك الفترة عبارة عن أكواخ بيضاوية (مستديرة) الشكل، بسيطة جداً، محفورة حتى منتصفها في التراب ومبنية من التراب المدكوك (اللبن) وكانت أرضيتها مغطاة بالصلصال، وفي داخلها تجهيزات معدة للتخزين مصنوعة من الصلصال أيضاً، وكان يحيط بتلك الأكواخ بساط من صفائح الحجر، وقد أقيمت عليه موائد مغلّفة بالكلس. أما متاع هذه الأكواخ (البيوت) فقد كان يتألف من الجواريش وأدوات سحق الحبوب والأواني الكبيرة المصنوعة من الجير التي عثر في داخلها على أدوات صوانية، من بينها نصال مناجل ومكاشط وأزاميل وفؤوس يعود تاريخها إلى صناعة متأخرة من صناعات العصر الحجري الحديث (قبل الفخار-ب) وعثر أيضاً على أدوات عظمية متنوعة مثل: المخارز والمثاقب والمحالج والنبال، كما استعمل العظم لصنع القلادات على شكل رأس حيوان.
وعثر في هذه الطبقة على تماثيل فخارية كان الأهالي يقلدون بها أشكال الحيوانات والبشر، وتدل هذه التماثيل على وجود علاقة وثيقة وقوية مع عبادة الأجداد بعد موتهم، فقد كانوا يرسمون نموذجاً لشكل الإنسان على العظام الخالية من اللحم، بعجينة كلسية، ويبرزون سطح الجمجمة بتلوينها أو دهنها بلون أحمر، ويقومون بتغطية العيون بالكلس الأبيض، ويعتقد أن التماثيل البشرية الطينية الكبيرة كانت تستخدم قواعد لهذه الجماجم. ومما يجدر ذكره أيضاً وجود خرزة أو كرة صغيرة من النحاس المطروق، تشير إلى قيام علاقات تجارية مع البلد المصدر لهذا المعدن في آسيا الصغرى.
ـ الطبقة الثانية (6000-5500) قبل الميلاد: في هذه الطبقة البيوت السكنية مستطيلة الشكل ذات غرفة واحدة، وقد استخدمت الحجارة لبناء الأساس ولبنات الطين لبناء الجدران، وكان السكان يجبلون خليطة من الكلس المشوي والرماد لصنع الأواني المنزلية وكان يقتصر في تصليبها على تجفيفها في الشمس، كما كانت جدرانها الخارجية تزيّن أحياناً بأشرطة حمراء وبقايا الرماد الكثيرة في هذه الطبقة هي التي أعطت الاسم الحالي لتل الرماد.
ـ الطبقة الثالثة (5500-5000) قبل الميلاد: تتميز هذه الطبقة بوجود خنادق محفورة في الطبقتين السابقتين، وهذا يدل على أن المساكن أصبحت أقل ضخامة، وهذا ما دفع البعض إلى القول بأن سكان تل الرماد قد انتقلوا في هذه الفترة إلى حياة (نصف بدوية) وقد تعيّن الاعتماد على تربية الحيوانات كالماعز والغنم والبقر والخنازير، مع الإشارة إلى وجود دلائل كثيرة تثبت وجود زراعة الحبوب والخضروات في تلك الفترة. في هذه الطبقة ظهر الخزف الملمّع الغامق اللون الذي يشبه الخزف الذي عثر عليه في مدن الساحل السوري (رأس الشمرة- جبيل).
هذه الآثار تعتبر أقدم آثار مادية وجدت ـ حتى الآن ـ للإنسان في دمشق وتدل على نشوء القرى الزراعية الأولى، وبداية الاهتمام ببناء المنازل البسيطة المستطيلة الشكل وبداية الفنون والمعتقدات الدينية المتطورة.
ويستدل من هذه الآثار مجتمعة عل أن منطقة دمشق، مثلها مثل غيرها من مناطق بلاد الشام، قد شهدت في هذه الفترة انقلاباً حضارياً هاماً في حياة الإنسان... لقد خرج من الكهف إلى السهل وبنى مسكنه في أحضان الطبيعة، وكانت الحفرة السكنية بمثابة الشكل المتطور للكهف، بينما يمثل الكوخ المرحلة الأولى لبناء البيت، ثم انتقل في مرحلة لاحقة إلى البيت المستطيل الشكل أو المربع الذي ألحقت به غرف المونة والممرات الداخلية... لقد دفن سكان دمشق في العصر الحجري الحديث، موتاهم في أرضيات بيوت سكنهم بعد أن فصلوا الجمجمة عن الجسم، وهذا يدل على مواقف محددة من قضايا الخصب والموت والحياة، ترسخت مع الزمن، واستمرت طويلاً في معتقدات الشعوب اللاحقة في الوطن العربي القديم.
ويقال أنها ترجع إلى من أحفاد نوح (عليه السلام)، وأن من بناها هو من أحفاد نوح، وقيل أيضاً أن نزل فيها وأسس حائط معبدها، وهو أول حائط مبني في التاريخ... وقيل الكثير عن دمشق وتاريخ دمشق، وعلى الرغم من أهمية هذه الأقوال ودلالاتها الكثيرة عن دور دمشق وعظمتها وريادتها التاريخية منذ أقدم العصور وحتى اليوم، فإنها تبقى في حدود المرويات والأساطير التي لا تعتمد في تقديم المادة العلمية الأساسية للمؤرخ.
ترى ماذا تخبرنا نتائج المكتشفات والدراسات الأثرية التي جرت في مناطق عديدة من دمشق في السنوات الأخيرة... دعونا نتلمس ذلك...
ثورة الحضارة
تعتبر الفترة الواقعة بين الألف الثامن قبل الميلاد، والألف السادس قبل الميلاد، من الفترات الهامة جداً في بلاد الشام بشكل عام، ودمشق بشكل خاص، ففي هذه البقعة الغنية جداً من العالم، نضجت قبل أي مكان آخر، جملة متكاملة من التحولات الهامة، يمكن أن نحدد عواملها في نقاط عديدة أهمها:
1 ـ الخروج من الكهف، وتأسيس القرى المبنية في العراء.
2 ـ درجة استقرار الناس داخل تلك القرى.
3 ـ القرية بحد ذاتها كإنجاز معماري، وتطور خططها ومدلولاتها.
4 ـ إنتاج القوت.
5 ـ التطور التكنولوجي والتقنيات الجديدة.
6 ـ التطور الإيديولوجي كما يتجلى في الفن أو في مراسم الدفن.
في مطلع الألف الثامن قبل الميلاد في بلاد الشام اكتملت التحولات التي ابتدأت مع العصر النطوفي، وابتكرت المجتمعات التي استقرت في قرى الصيادين الأولى، نمطاً اقتصادياً إنتاجياً جديداً يوفر لها مصادر عيشها بشكل أفضل، إذ انتقلت من الاقتصاد الاستهلاكي الذي يقوم على التقاط الحبوب وصيد الحيوانات البرية، إلى إنتاج هذه الخيرات من خلال الزراعة والتدجين...
لقد شكل الانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجي المنظّم انعطافاً كبيراً ووضع الأرضية التي نشأت عليها الحضارات التاريخية اللاحقة، وكان هذا الانعطاف عظيم الأثر لدرجة أن بعضهم أسماه بالثورة النيوليتية، أو ثورة إنسان العصر الحجري الحديث، وبغض النظر عن أسباب ودوافع وظروف نشوء الزراعة والتدجين، سواء كان مردّها ثقافياً-اجتماعياً، أو بيئوياً-جغرافياً أو ديمغرافياً-سكانياً... أو كل هذه العوامل مجتمعة، فيجب أن نتذكر أن ابتكار الزراعة هو الخطوة الحضارية العملاقة التي حققها الإنسان، ولولاها لما كان لحضارتنا الحديثة أن نقوم، ولا أن تصل إلى هذه الدرجة من الغنى المتنوع، ومع بداية الزراعة تسارعت وتائر التطور بشكل مذهل، وحصلت تحولات دراماتيكية أسست لظهور الدول والحضارات التاريخية بكل غناها وتعقيداتها. وحتى نفهم دور دمشق في هذه التحولات وعمليات الاستقرار والاستيطان البشري نشير إلى دور العوامل الجغرافية والبيئوية، فمنطقة دمشق، كما هو معروف، كانت عبر عصورها المختلفة، وفيرة المياه، خصبة التربة، تساعد على الاستقرار والاستيطان، لهذا استقر فيها الإنسان مبكراً، كما دلت على ذلك الحفريات الأثرية التي تمت في مواقع عديدة مثل: تل أسود، وتل الرماد، وتل الخزامى، وتل الغريفة...
تل أسود
يقع تل أسود فيغوطة دمشق، في منطقة تكثر فيها المستنقعات الواقعة بين بحيرتين، وتبلغ أبعاد هذا التل (270×225) متراً، وارتفاعه عن سطح الأرض نحو خمسة أمتار، وقد جرت فيه عدة تنقيبات أثرية وبناء عل تحليل الكربون المشع (Cl4) ثبت أن عمر الاستقرار البشري في هذا الموقع يعود إلى الفترة الواقعة بين (7790 و6690) قبل الميلاد، أي ما يعرف بالعصر الحجري الحديث الأول، الذي لم يشهد صناعة الفخار، وبناء على مقارنة أنماط البناء والأدوات الحجرية والصوانية المكتشفة في الموقع مع غيرها من المواقع الأخرى، ثبت أن الآثار المكتشفة في تل أسود مؤلفة من مجموعة كثيفة من «البيوت» المستديرة الممتلئة بالرماد والمواد النباتية المحروقة، وتتقاطع تلك البيوت بعضها مع بعض في أكثر الحالات، كما أن الأحدث عهداً يشتبك مع الأقدم عهداً، ويتخلل تلك البيوت «حفر» أسطوانية مستقيمة الجوانب (لعلها صوامع) وقد عثر المنقبون الأثريون بين الأنقاض على أعداد كبيرة من اللبن المصنوع من الطين الممزوج بالتبن، واللبنة مسطحة من الأسفل، محدبة من الأعلى، وتظهر على وجهها العلوي طبقة أصابع آدمية، وكانت قطع اللبن تلك حطاماً محترقة بين الأنقاض، أو مرصوفة جنباً إلى جنب، وتفرش الأرضية مكونة «مصطبة».
وبناء على ذلك كان «تل أسود» قرية مؤلفة من أكواخ صغيرة الحجم ومستديرة الشكل، تتلاصق بكثافة بعضها مع بعض، مملوءة بالتراب حتى منتصفها، وقد استخدم الطين في صنع اللبن الذي كانت تفرش فيه أرضية المسكن، أو لبناء مصطبات منخفضة، أما البنيان العلوي للكوخ، فلابد أن معظم عناصره مؤلفة من مواد نباتية خفيفة وسريعة الاشتعال حيث تشير دلائل الحريق أن الأكواخ قد تعرضت مراراً للحريق، مع الإشارة إلى طبيعة البيئة المحيطة بالموقع التي أوجبت اللجوء إلى استخدام المواد الخفيفة وهي النباتات الناشئة من وجود المستنقعات كما كانت بحيرتا العتيبة والهيجانة غنيتين بالأسماك التي قام السكان باصطيادها ليتغذوا بها.
وتجدر الإشارة إلى كثرة الدمى الطينية (البشرية والحيوانية) في تل أسود، ومعظم الدمى البشرية كانت تمثل النساء على نحو يبرز منهن الأرداف والصدر، وتشكل هذه المكتشفات بدايات للتصور الفني لدى الإنسان.
أما عن المعتقدات التي وجدت دلالاتها في تل أسود، فقد كان الإنسان حين وفاته يدفن في حفرة عادية بوضعية الجنين، وحده أو مع طفل، وفي إحدى الحفر ظهر فيها جمجمة منفصلة + هيكل عظمي لطفل، وتحتها هيكل عظمي تام، مع أربع جماجم منفصلة، منها اثنين لطفلين، ومعهم خرزة من الصدف وأربع نصلات مناجل، ورأسي سهم من الصوان، وتأسيساً على ذلك يفترض أن القبر كان قد استخدم عدة مرات، وقد يعود لأسرة واحدة.
وفي الفترة التي تؤرخ بين (7000-6500) قبل الميلاد عثرت البعثات الأثرية في تل أسود على دلائل مادية تؤكد على تطور الاستقرار البشري واتساعه وقد أضيف إلى زراعة القمح النشوي زراعة أنواع جديدة من الحبوب كالقمح الوحيد الحبة والقمح الصلب والشعير، وكثرت صناعات العصر الحجري الحديث (القبل فخاري-ب) الصوانية وتنوعت أدواتها كما تم تصنيع الأدوات الصغيرة المصنوعة من الحجارة المصقولة كالجير والعقيق والحجر الأخضر وغيرها، كما عثر على كميات كبيرة من الدمى المصنوعة من الطين المشوي، من بينها مجموعات جديدة من التماثيل البشرية المسطحة والمستطيلة الشكل.
تل الغريفة
يقع تل الغريفة بالقرب من تل أسود وبحيرة العتيبة، وقد عثر فيه على أبنية مشابهة لتل أسود في الطبقة السفلى من الموقع، والتي تعود إلى الفترة الواقعة بين (6900 و6300) قبل الميلاد تظهر لنا نمطاً حياتياً مماثلاً لتل أسود (الطبقة الثانية) وعثر على تمثال صغير أسطواني الشكل قاعدته محزّزة يمثل إحدى المعبودات البيتية.
أما الطبقة العليا الممتدة (6300 و6000) قبل الميلاد، فنمط العيش فيها يشبه إلى حد ما الطبقة (1) من تل الرماد المعاصر.. وهناك ما يثبت أن دور الزراعة في هذه المنطقة قد تدنى لصالح الصيد بسبب الجفاف الذي طرأ على هذه الفترة الزمنية، وقد توقفت الحياة في هذا الموقع منذ ذلك الحين إلى أن جرى تحويله إلى مقبرة في فترة الاحتلال الروماني-البيزنطي لسورية.
تل الخزامى
يقع هذا التل الأثري في المكان الذي أنشئ فيه مطار دمشق الدولي الجديد، ويعود تاريخ الآثار التي اكتشفت فيه إلى النصف الثاني من الألف الخامس قبل الميلاد، وكان يضم في بقاياه بعض المساكن المتعددة الغرف، المستطيلة الشكل، المبنية من مادة اللبن المقولب، وقد عثر فيه على كميات من الخزف الفاتح اللون المغلّف بطلاء أحمر، المزيّن بزخارف محزّزة، ويشبه من حيث النوعية الكثير من الخزف المكتشف في مناطق عديدة من فلسطين وجبيل.
أما الأدوات الصوانية فقد كانت نادرة، وهي عبارة عن نصلات مقفاة مستطيلة الشكل كانت بمثابة المناجل، وهناك التماثيل الطينية المشوية (حيوانية وإنسانية) على شكل بيادق صغيرة.
تل الرماد
يقع تل الرماد على بعد 20كم جنوب شرقي دمشق قرب بلدة قطنا على ضفة وادٍ، يجري بين (قطنا وعرطوز) وقد جرى اكتشاف هذا الموقع في الثلاثينيات وكان يعرف ب وفي سنة 1960 أعيد اكتشافه على يد «فان لير» الذي أطلق عليه اسم «تل الرماد» نسبة إلى تكوينه ومن سنة 1963 إلى سنة 1973 قامت بعثة فرنسية-سورية بإجراء عدة مواسم تنقيبية فيه أسفرت عن وجود ثلاث طبقات أثرية فيه وهي على التوالي من الأقدم فالأحدث:
ـ الطبقة الأولى (6250-6000) قبل الميلاد، وهي أقدم الطبقات وقد أسفرت الأعمال الأثرية عن معلومات تفيد بأن سكان هذه المستوطنة الزراعية كانوا يعتمدون في حياتهم على زراعة القمح النشوي، والشعير والعدس والكتان الذي كان يستخرج منه الزيت، كما كان الناس يقتاتون من ثمار الأشجار البرية كاللوز والزعرور والفستق والتين، ويقومون بالإضافة إل ذلك بصيد الغزلان والأيائل...
لقد كانت مساكن الناس في تلك الفترة عبارة عن أكواخ بيضاوية (مستديرة) الشكل، بسيطة جداً، محفورة حتى منتصفها في التراب ومبنية من التراب المدكوك (اللبن) وكانت أرضيتها مغطاة بالصلصال، وفي داخلها تجهيزات معدة للتخزين مصنوعة من الصلصال أيضاً، وكان يحيط بتلك الأكواخ بساط من صفائح الحجر، وقد أقيمت عليه موائد مغلّفة بالكلس. أما متاع هذه الأكواخ (البيوت) فقد كان يتألف من الجواريش وأدوات سحق الحبوب والأواني الكبيرة المصنوعة من الجير التي عثر في داخلها على أدوات صوانية، من بينها نصال مناجل ومكاشط وأزاميل وفؤوس يعود تاريخها إلى صناعة متأخرة من صناعات العصر الحجري الحديث (قبل الفخار-ب) وعثر أيضاً على أدوات عظمية متنوعة مثل: المخارز والمثاقب والمحالج والنبال، كما استعمل العظم لصنع القلادات على شكل رأس حيوان.
وعثر في هذه الطبقة على تماثيل فخارية كان الأهالي يقلدون بها أشكال الحيوانات والبشر، وتدل هذه التماثيل على وجود علاقة وثيقة وقوية مع عبادة الأجداد بعد موتهم، فقد كانوا يرسمون نموذجاً لشكل الإنسان على العظام الخالية من اللحم، بعجينة كلسية، ويبرزون سطح الجمجمة بتلوينها أو دهنها بلون أحمر، ويقومون بتغطية العيون بالكلس الأبيض، ويعتقد أن التماثيل البشرية الطينية الكبيرة كانت تستخدم قواعد لهذه الجماجم. ومما يجدر ذكره أيضاً وجود خرزة أو كرة صغيرة من النحاس المطروق، تشير إلى قيام علاقات تجارية مع البلد المصدر لهذا المعدن في آسيا الصغرى.
ـ الطبقة الثانية (6000-5500) قبل الميلاد: في هذه الطبقة البيوت السكنية مستطيلة الشكل ذات غرفة واحدة، وقد استخدمت الحجارة لبناء الأساس ولبنات الطين لبناء الجدران، وكان السكان يجبلون خليطة من الكلس المشوي والرماد لصنع الأواني المنزلية وكان يقتصر في تصليبها على تجفيفها في الشمس، كما كانت جدرانها الخارجية تزيّن أحياناً بأشرطة حمراء وبقايا الرماد الكثيرة في هذه الطبقة هي التي أعطت الاسم الحالي لتل الرماد.
ـ الطبقة الثالثة (5500-5000) قبل الميلاد: تتميز هذه الطبقة بوجود خنادق محفورة في الطبقتين السابقتين، وهذا يدل على أن المساكن أصبحت أقل ضخامة، وهذا ما دفع البعض إلى القول بأن سكان تل الرماد قد انتقلوا في هذه الفترة إلى حياة (نصف بدوية) وقد تعيّن الاعتماد على تربية الحيوانات كالماعز والغنم والبقر والخنازير، مع الإشارة إلى وجود دلائل كثيرة تثبت وجود زراعة الحبوب والخضروات في تلك الفترة. في هذه الطبقة ظهر الخزف الملمّع الغامق اللون الذي يشبه الخزف الذي عثر عليه في مدن الساحل السوري (رأس الشمرة- جبيل).
هذه الآثار تعتبر أقدم آثار مادية وجدت ـ حتى الآن ـ للإنسان في دمشق وتدل على نشوء القرى الزراعية الأولى، وبداية الاهتمام ببناء المنازل البسيطة المستطيلة الشكل وبداية الفنون والمعتقدات الدينية المتطورة.
ويستدل من هذه الآثار مجتمعة عل أن منطقة دمشق، مثلها مثل غيرها من مناطق بلاد الشام، قد شهدت في هذه الفترة انقلاباً حضارياً هاماً في حياة الإنسان... لقد خرج من الكهف إلى السهل وبنى مسكنه في أحضان الطبيعة، وكانت الحفرة السكنية بمثابة الشكل المتطور للكهف، بينما يمثل الكوخ المرحلة الأولى لبناء البيت، ثم انتقل في مرحلة لاحقة إلى البيت المستطيل الشكل أو المربع الذي ألحقت به غرف المونة والممرات الداخلية... لقد دفن سكان دمشق في العصر الحجري الحديث، موتاهم في أرضيات بيوت سكنهم بعد أن فصلوا الجمجمة عن الجسم، وهذا يدل على مواقف محددة من قضايا الخصب والموت والحياة، ترسخت مع الزمن، واستمرت طويلاً في معتقدات الشعوب اللاحقة في الوطن العربي القديم.
No comments:
Post a Comment